موسوعة نور الرحمن موسوعة نور الرحمن
random

آخر الأخبار

random
جاري التحميل ...

خصائص الاقتصاد الإسلامي

 إن لكل نظام اقتصادي خصائصه الأساسية التي تميزه من النظم الأخرى، والنظام الاقتصادي الإسلامي له هويته الفريدة، والمستقلة التي تميزه من النظام الرأسمالي والاشتراكي، حيث يقوم على عقيدة واضحة المعالم، يستمد منها خصائصه، ومقوماته، وأهدافه، ويرتكز على تشريع إلهي يضبط هذه الخصائص والمقومات. ولما كان النظام الاقتصادي الإسلامي جزءاً من الإسلام، أخذ هذه الخصائص من خلال نظرة الإسلام إلى الكون والحياة والإنسان، ومن المفاهيم الإسلامية والمصادر الشرعية المختلفة، ومن ثَمَّ فإنه ينظر إلى هذه الخصائص على أنها ركائز ثابتة، لا تتغير ولا تتبدل بتبدل الزمان أو المكان، ولا تخضع للبحث والمناقشة، لبيان صحتها أو بطلانها، لأن الاقتصاد الإسلامي بأركانه ومقوماته، وخصائصه... تحكمه التعاليم الإسلامية، والقيم الخلقية المستمدة من مصادر التشريع التي لا يأتيها الباطل من بين يديها أو من خلفها.

والاقتصاد الإسلامي له خصائص عدة، منها: أنه اقتصاد رباني، وعقدي، وأخلاقي، وواقعي، وإنساني عالمي، ويوازن بين مصلحة الفرد والمجتمع، وأنه فريد في نوعه، مستقل عن غيره، وهو اقتصاد موجه، والمال فيه وسيلة وليس غاية، وذو طابع تعبدي، والملكية فيه لله تعالى، والإنسان مستخلف فيها... ويمكن أن نذكر بعض هذه الخصائص، وأهمها في المباحث الآتية.
المبحث الأول
الاقتصاد الإسلامي اقتصاد إلهي رباني وعقدي
أولاً- اقتصاد إلهي رباني:
إذا كانت النظم الاقتصادية الرأسمالية والاشتراكية، تقوم على القوانين التي وضعها البشر، فتستمد منها تشريعها، ومبادئها، وخصائصها التي تنظم الحياة الاقتصادية للفرد والمجتمع، فإن الاقتصاد الإسلامي إلهي، يستمد قواعده، وأصوله، ومبادئه، وخصائصه، من مصادر التشريع الإسلامي التي شرعها الله عز وجل. وقد ذكر القرآن الكريم والسنة النبوية كثيراً من المبادئ الاقتصادية منها:
1- المال مال الله، والبشر مستخلفون فيه، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ [الحديد:7]. وقوله سبحانه وتعالى: ﴿للهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ﴾ [المائدة:120].
2- احترام الملكية الخاصة: قال سبحانه وتعالى: ﴿لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ﴾ [النساء:32].
3- الحرية الاقتصادية المقيدة: قال الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ﴾ [النساء:29].
4- ترشيد الإنفاق: قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْـمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف:31].
5- التنمية الاقتصادية وعمارة الكون: قال الله سبحانه وتعالى: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود:61].
6- العدالة الاجتماعية، وحفظ التوازن بين أفراد المجتمع، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ﴾ [الحشر:7].
7- حماية البيئة، وعدم إفساد الموارد الطبيعية والاقتصادية: قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ11/2أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْـمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَّا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة:11-12]. وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ﴾ [البقرة:205].
8- إباحة الطيبات وتحريم الخبائث: قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ﴾ [الأعراف:157].
9- استثمار المال وعدم كنزه: قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ﴾ [النساء:5].
إن من مقتضى كون الاقتصاد الإسلامي إلهياً وربانياً، مسؤولية الفرد والمجتمع عن القيام بأي نشاط يخالف فيه شرع الله عز وجل، فإذا ما عُصي الله عز وجل بشيء من ذلكم، فإنه سبحانه وتعالى سيجعل الفرد والمجتمع في مشقة من العيش، وأزمة اقتصادية في الدنيا، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾ [طه:124]، وسيسألون عما فعلوا في الآخرة، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ92/15عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الحجر:92-93].
ثانياً:- اقتصاد عقدي:
إن الأسس العقدية التي يقوم عليها الاقتصاد الإسلامي، وينبثق منها، ويرتبط فيها لتوجه النشاط الاقتصادي الوجهة الصحيحة التي تنسجم مع توجيهات العقيدة، وتترتب عليها نتائج اقتصادية طيبة.
فالعقيدة الإسلامية التي تهدف إلى ربط قلب المسلم بالإيمان بالله عز وجل  المالك الأصلي والحقيقي لكل ما في هذا الكون، والإيمان باليوم الآخر الذي يحاسب فيه كل امرئ على ما قدم وأخر، ومراقبة الله سبحانه وتعالى في كل نشاط يقوم به، لها أثر عظيم في تصحيح مسيرة الاقتصاد والنشاط الاقتصادي الفردي والجماعي، حيث يعقد المسلم أن الله عز وجل خلقه لعمارة هذا الكون، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود:61]. وأن ما فيه من خيرات ونعم إنما سخرها الله عز وجل له، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ32/14وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ33/14وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ [إبراهيم:32-34].
وإن ملكية الإنسان هي ملكية مؤقتة، والمالك الحقيقي هو الله عز وجل، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾ [مريم:40]. وأن الله عز وجل فاوت في الرزق بين العباد وجعلهم درجات في ذلك، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ﴾ [النحل:71].
فإن لتلك المعاني، ولاسيما التفضيل في الرزق نتائج اقتصادية عظيمة، إذ تجعل الإنسان قانعاً برزقه، وأنه لن يستطيع أن يرد ما قَدّره الله له، ولا يُحصِّل أكثر مما قُدّر له، مهما سعى ونافس الآخرين في الكسب. فالمسلم لا يجعل المال هدفاً يسعى إليه بما أوتي من وسائل ولو كانت محرمة، كما هو حال الأفراد في النظام الرأسمالي، إنما يؤمن بأن المال وسيلة يستعان بها لقضاء حاجاته، وتأمين متطلباته.
ثم إن الإيمان بالملكية المؤقتة للإنسان، وتفاوت العباد في الرزق من شأنه أن يقضي على قضية طالما شغلت الاقتصاديين قديماً وحديثاً لاسيما ماركس وأتباعه، وهي مسألة الصراع الطبقي الذي ينشأ بين أفراد، بسبب الفقر المدقع، والغنى الفاحش؛ لأن هذا الإيمان يحرر صاحبه من الخوف على مستقبله في الحياة؛ لأن الله عز وجل كفل له رزقه، وما عليه إلا أن يسعى، وقد بيّن جل جلاله أن الفقر والغنى من المتغيرات التي لا تدوم، فكم من فرد أو دولة أمست غنية ثم أصبحت فقيرة؟ وهذا يعني أن الناس جميعاً في الحقيقة فقراء، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر:15]. وهذا كله يقود إلى التعاون بين الفقراء والأغنياء، فلا يشعر أحدهم بأنه أفضل من الآخر؛ لأن أساس التفاضل هو التقوى، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات:13].
إن الإيمان بالله عز وجل واليوم الآخر يدفع الإنسان إلى الخوف منه، ومراقبته في كل عمل يقوم به، وهذا ينعكس على سلوك الفرد وتصرفه، فيمتنع عن مزاولة الأنشطة الاقتصادية المحرمة: كالربا، الاحتكار، الرشوة، إنتاج المحرمات، واستهلاكها والاستثمار فيها؛ لأنه لا يعقد أن الشيء المحرم لا فائدة فيه، وإن رآه غير المسلم مفيداً فحسب، بل يعتقد أنه ضار به وبمجتمعه وسيحاسب على تعاطيه، والتعامل به يوم القيامة... فهو بهذا الاعتقاد يربح راحة نفسه في الدنيا، وسلامة حاله في الآخرة.
إن ما نراه اليوم من مشكلات اقتصادية واجتماعية، وقتل ودمار، وفساد اقتصادي وأخلاقي، يعود أساساً إلى غياب العقيدة (الأيديولوجية) للنظام العالمي، لذلك نبه بعض المفكرين الاقتصاديين على أهمية العقيدة وضرورتها في بناء العالم، وأثرها في سلوك الأفراد، قال جورج سُول متحدثاً عن الأساس العَقَدي للرأسمالية: (فإذا كانت المصادر القديمة قد أخطأت في نظرتها إلى العالم الطبيعي، كما كانت مخطئة في نظرتها إلى الدين، وقوانين السلوك البشري، أصبح كل شيء موضع التساؤل والشك... وأصبح البحث ينصب على تفسير النتائج والأسباب بالنسبة للسلوك البشري... عن طريق قوانين الطبيعة بدلاً من البحث عنها في إرادة الله، كما قالت الكتب المقدسة... لقد سيطرت فكرة الآخرة على المذاهب السائدة خلال العصور الوسطى ... والآن تحول الاهتمام فأصبح محصوراً في تحسين الحياة على الأرض لذاتها... وصار لزاماً على الذين نبذوا الإيمان بالله كلية أن يبحثوا عن بديل لذلك، ووجدوه في الطبيعة، لذا لم تعد الطبيعة مجرد شيء له وجود فحسب وإنما شيء ينبغي أن يطاع، وصارت مخالفتها دليلاً على نقص التقوى والأخلاق).
* المصدر: معالم الاقتصاد الإسلامي: د. صالح العلي.

* * *
المبحث الثاني:
الاقتصاد الإسلامي اقتصاد ذو طابع تعبدي وأخلاقي
أولاً- اقتصاد ذو طابع تعبدي:
خلق الله عز وجل الخلق لعبادته، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:56]. ومن فضله سبحانه وتعالى على عباده، أنه لم يجعل العبادة محصورة فيما افترض عليهم، بل وسع من دائرتها، لتشمل كل عمل خير، نافع، يفيد الفرد والمجتمع بشرط إخلاص النية فيه لله تعالى، وكون هذا العمل مشروعاً لقوله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام:162].
وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الأعمال التي يقوم بها الإنسان لمعيشته، وكفاية نفسه، وأهله، ومجتمعه، عبادة يتقرب بها العبد إلى الله عز وجل، فالزارع في حقله، يثاب على عمله، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يزرع زرعاً أو يغرس غرساً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة». والعمل في أي حرفة سبب لمغفرة الذنوب، فيما إذا قام العامل بحقها، من إتقان العمل فيها، والإخلاص بها لله عز وجل، وعدم الانشغال بها عن واجباته الدينية؛ كالصلاة، والصيام.. والتزام حدود الله تعالى بها، فلا يغش، ولا يخون فيها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أمسى كالاًّ من عمل يده أمسى مغفوراً له».
إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل مجرد مزاولة النشاط الاقتصادي عبادة فحسب، بل جعل الهَمَّ الذي يصيب الإنسان أثناء عمله، أو حين طلبه لعمل، أو حرفة، أو وظيفة، يقتات منها، ويكف بها وجهه عن سؤال الناس، من مكفرات أعظم الذنوب، قال صلى الله عليه وسلم: «إن من الذنوب ذنوباً لا تكفرها الصلاة ولا الصيام ولا الحج ولا العمرة، ولكن يكفرها الهم في طلب العيش».
الاقتصاد الإسلامي اقتصاد أخلاقي:
ظلت العلاقة بين الاقتصاد والقيم الأخلاقية موضع جدل ونقاش بين الاقتصاديين منذ القرن السابع عشر الميلادي حتى يومنا هذا، حيث يستبعد بعض الاقتصاديين ربط الأخلاق بالاقتصاد، وعلى هذا قامت النظم الاقتصادية المعاصرة التي فصلت بين الأخلاق والاقتصاد، ولم تميز بين ما هو أخلاقي، وما هو غير أخلاقي، وما هو غير أخلاقي في أي سلوك اقتصادي، إذ العَالِم الاقتصادي لا يهتم إلا بالوسائل التي تشبع رغبات الإنسان، بغض النظر عن طبيعة هذه الرغبات، ودوافعها وأهدافها.. فما يهم الاقتصادي إلا إشباع رغبة الإنسان، بأي شكل كان، وبأي وسيلة، ولو كانت محرمة.
أما الاقتصاد الإسلامي فلا يفرق بين الاقتصاد والأخلاق، بل يربط بينهما برباط وثيق، إذ إن معظم أحكام الشريعة الإسلامية مرتبطة بالأخلاق، وتقوم على أسس أخلاقية ولاسيما المعاملات المالية الاقتصادية. ويمكن ذكر مثال على أهمية القيم الخلقية في الاقتصاد الإسلامي، والآثار المترتبة عليها. وسيأتي ذكر المزيد منها عند الحديث عن مصادر الملكية الخاصة، ووسائل حمايتها، والتكافل الاقتصادي... الخ.
الصدق والأمانة: قال سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَخُونُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال:27]. وقال سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة:119]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صَدَقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما».
فهذه الأصول الأخلاقية تأمر المسلم بالصدق والأمانة أثناء مزاولة النشاط الاقتصادي، فيكون صادقاً في معاملته مع الآخرين، وأميناً على عمله، فلا يخون فيه. وبناءً على هذه القيم الأخلاقية استنبط الفقهاء المسلمون جملة من المعاملات الاقتصادية، وجعلوا الصدق والأمانة أساساً في صحتها، وترتُّب النتائج عليها، مثال ذلك: بيوع الأمانة: التي تعتمد على تحديد الثمن فيها على ذكر رأس المال الذي اشترى به البائع سلعته. وهي أنواع:
1- المرابحة: وهي بيع السلعة بالثمن الذي اشتريت به مع زيادة شيء معلوم من الربح.
2- الوضيعة أو الحطيطة: وهي بيع السلعة بأقل مما اشتريت به، أي: بخسارة معلومة.
3- التولية: وهي بيع السلعة بنفس الثمن الذي اشتريت به، أي: البيع بلا ربح ولا خسارة، وهي نقل جميع المبيع من البائع إلى المشتري بنفس الثمن الذي اشترى به، من غير زيادة ولا نقصان.
وسميت هذه البيوع بيوع الأمانة، لأن البائع مؤتمن في إخباره عن الثمن الذي اشترى المبيع به، فإذا خان البائع، فأخبر المشتري بأنه اشترى السلعة برأس مال كذا، فظهر للمشتري أن البائع كاذب في ما أخبره به من رأس المال، ففي هذه الحال، هل يكون للمشتري خيار رد السلعة بسبب خيانة البائع، أو حط مقدار الخيانة من رأس المال وما يقابله من الربح، أو يكون له ذلك كله. هناك تفصيل عند الفقهاء.
إن الأخلاق توجه المعاملات المالية وتضبطها في الاقتصاد الإسلامي ليس عن طريق النصائح الأخلاقية فحسب، بل يدعم الإسلام ذلك، ويؤيده بقواعد تشريعية إلزامية، تعيد الأنشطة الاقتصادية، والمعاملات المالية إلى مسارها الصحيح إذا ما انحرفت عنه، فهذه القواعد التشريعية تنظم العلاقات الاقتصادية، وتحدد الحقوق، وتفرض الواجبات... وهذا ما يجعل الحياة الاقتصادية منسجمة مع القيم الأخلاقية والروحية، مما يولد الانسجام والتعاون داخل المجتمع الإسلامي وخارجه، وتبعده عن الصراع، والضياع الذي أصبح السمة الظاهرة للمدنية المعاصرة التي ابتعدت عن الأخلاق، وآداب السلوك...
ويمكن إيضاح ما تقدم من خلال حديث النبي: صلى الله عليه وسلم «ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفه أجره». فالحديث ليس مجرد نصائح أخلاقية فحسب، بل يتضمن قواعد حقوقية تتصف بالإلزام، حيث يوجب إعطاء الأجير أجره الذي استحقه بعد قيامه بالعمل المطلوب منه، وإذا لم يعط المستأجر الأجير حقه، فإنه يمكن للأجير أن يرفع دعوى إلى القضاء، يطلب فيها حقه، فإذا ما توفرت شروط الدعوى، واستطاع الأجير أن يثبت حقه بوسائل الإثبات أمام القاضي، فإنه حينئذ يحكم القاضي له بالحق، ويلزم المستأجر (المدعى عليه) بالتنفيذ.
إن ما ذكرناه من الأحاديث، وغيرها كثير تردُّ بشكل صريح على أولئك الذين يزعمون أن الإسلام ليس له إلا وصايا أخلاقية في الاقتصاد، ليست لها أي صفة إلزامية... ومن هنا يبدو أن الاقتصاد الإسلامي هو النظام الوحيد الذي ربط بوضوح بين الاقتصاد والأخلاق... فالصدق والأمانة، وحسن المعاملة والإخلاص في العمل وإتقانه، صفات خلقية حميدة، ترفع من الاقتصاد، حيث تعزز الثقة بين المتعاملين، وتنمي الإنتاج،... وهناك قيم خلقية ذميمة: كالكذب، والغش، والمنافسة غير المشروعة، وبخس الكيل والوزن... حرمها الإسلام، لأن لها آثاراً اجتماعية واقتصادية سيئة، يمكن أن تكدر صفو الحياة الاقتصادية السليمة.. وقد أشار بعض الباحثين الاقتصاديين الغربيين إلى ارتباط الاقتصاد بالقيم الخلقية، وأهميتها في بناء المجتمع. فقال: (وهو- أي علم الاقتصاد- ليس بدارسة يمكن فصلها عن دراسة الجوانب الأخرى من سلوك الإنسان كحياته السياسية، أو الاجتماعية، أو الجمالية، أو الدينية، أو الأخلاقية... ويجب على علم الاقتصاد أن يظل ذا علاقة بالعدالة والقوانين الأخلاقية وإنه ليفعل ذلك... ولكي يكون للمذاهب الاقتصادية معنى لا بد أن تكون ذات صلة بنوع معين من المجتمع، وبمظاهر السلوك في ذلك المجتمع، خلاف مجرد كسب العيش).
* * *
المبحث الثالث
الاقتصاد الإسلامي اقتصاد إنساني عالمي وواقعي
أولاً- اقتصاد إنساني عالمي:
لما كان الإسلام ديناً عالمياً إنسانياً أبدياً، لقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107]. وقول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ﴾ [آل عمران:19]. وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [سبأ:28]. فإن كل ما يتصل به يأخذ هذه الصفة، لذلك يكون الاقتصاد الإسلامي اقتصاداً إنسانياً عالمياً.
ومما يدل على إنسانية الاقتصاد الإسلامي وعالميته أنه لم يفرق في المعاملة بين فرد وآخر، أو بين شعب وآخر، أو بين أمة وأخرى، فالناس كلهم عباد الله، ومن ثَمَّ فإن الإسلام شرع تعاليمه للناس كافة، ولم يقتصر فيها على المسلمين فقط... ومن هنا جاءت كثير من الآيات القرآنية بأحكام تعم الناس جميعاً... وتطرقت هذه الآيات إلى بعض الأحكام في المعاملات المالية، وربطت بين الاقتصاد والقيم الأخلاقية، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ﴾ [النساء:58]. وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ1/83الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ2/83وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ [المطففين:1-3]. وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة:8]. وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة:275].
إن تلكم الأوامر والنواهي والتوجيهات ليست خاصة بالمسلمين دون غيرهم، بل هي للناس جميعاً، وقد بين الله عز وجل أنه خلق الناس جميعاً، وجعلهم شعوباً وقبائل من أجل أن يتعارفوا، ويتعاونوا على البر والتقوى، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات:13]. وجعل الله سبحانه وتعالى ميزان القرب منه، والتفاضل بين العباد، هو تقواه سبحانه وتعالى.
وبعد هذا البيان الإلهي لعالمية الاقتصاد الإسلامي وصلاحيته لكل الناس، فإننا لا نحتاج إلى شهادة أحد منهم ليبين أهمية تبني المجتمعات كافة للاقتصاد الإسلامي والسير على منهجه، من أجل القضاء على المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها البشرية... ولكن يمكن أن نستشهد برأي أحد علماء الاقتصاد العظام، وهو المستشرق الفرنسي جاك أو ستروي الذي درس الاقتصاد الإسلامي بوعي وعمق، وقادته هذه الدراسة إلى الإيمان بخلود هذا النظام، وعدالته، وإبداعه، فقال: (وخلق الاقتصاد الإسلامي قد يعني بلا شك لأكثر الذين أضاعوا أصلهم، بسبب التغريب السطحي للعالم تحركاً فكرياً جديداً... ولم يستطع الغرب ملء الفراغ الذي أوجده بتهديمه التوازن السابق، وهذا خطأ فادح يسجله التاريخ؛ لأن هذه الشعوب الكادحة ستفتش عن أنظمة أخرى (يقصد غير الرأسمالية والاشتراكية) تطلب فيها حكمة فقدت من أسواق الغرب... وبروز اقتصاد إسلامي يمكن أن يحمل في هذا المجال معنى مزدوجاً، فهو قادر على تحاشي المراحل المحزنة التي مرّ بها التصنيع الغربي... وحدث ظهور اقتصاد (أي إسلامي) يبدع الثروات الضرورية الكافية لقيم الإنسان دون هدم التراكيب النفسية الاجتماعية الذي قدر أخيراً قيمتها التي لا تعوض، نقول: هذا الحدث (اقتصاد إسلامي) هو أكثر من أمل، فهو الاتصال اللازم لمحاولات الإبداع الاقتصادي الأصيل تقوم به الحضارات التي تريد البقاء كنظم اجتماعية ثقافية ذاتية... والظاهر أن الإسلام يتحلى بصفة خاصة في هذا الإبداع الاقتصادي الجديد... وفرصة خلق اقتصاد إسلامي واحتمالات بناء نظام مبدع جديد حري بالتشجيع).
إن الاستشهاد بهذا الرأي وأمثاله لاسيما آراء المستشرقين لا يزيدنا يقيناً بضرورة بروز الاقتصاد الإسلامي، وأهميته في الحياة الاقتصادية في عالمنا، لأننا ننظر إلى هذا النظام على أنه من عند الله تعالى، فهو جزء من الدين الذي جاء ناظماً لأمور الدنيا والآخرة، وأنه قادر على حل المشكلات؛ لأن الله عز وجل خلق الخلق، ويعلم ما يصلح لهم، قال سبحانه وتعالى: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك:14].
ولكننا نستشهد بهذه الآراء أحياناً للفت أنظار الباحثين المسلمين الذين وُلِعوا بتبعيتهم للغرب، وتنكروا لدينهم، وتراثهم، فراحوا يحاربونه أكثر من أعدائه... إلى أن يكونوا موضوعيين، ومهتمين بقضايا أمتهم، وشؤون بلادهم، ويجندوا أنفسهم خدمة لدينهم، وإن استشهادنا بهذه الآراء لا يعدو أن يكون إلا كما قيل: وبضدها تتميز الأشياء، والفضل ما شهدت به الأعداء.
ثانياً- اقتصاد واقعي:
الاقتصاد الإسلامي اقتصاد واقعي؛ لأنه يراعي في نظرته الاقتصادية واقع الفرد والمجتمع فيرى متطلباته من خلال الواقع الذي يعيش فيه، فينظر إلى إمكاناته وظروفه، وبيئته، وطبيعته، وفطرته... فلا يحمله من التكاليف ما لا يطيق، ولا يفرض عليه ما لا يستطيع، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة:286].
فلا يحرم الفرد من سلوكه وتصرفاته الاقتصادية التي تنسجم مع طبيعته الإنسانية، وفطرته البشرية، لذلك أعطاه كل ما ينمي هذه الطبيعة، ويعزز هذه الفطرة... فشرع له حق الملكية الخاصة، والحرية الاقتصادية... لكنه قيد هذه الحقوق نظراً إلى واقع الإنسان، والمجتمع الذي يعيش فيه... هذه الواقعية التي أقام الاقتصاد الإسلامي مخططه الاقتصادي على أساسها، ميزته من النظم الاقتصادية الأخرى التي نظرت إلى الإنسان نظرة خيالية، ورسمت له أهدافاً غير واقعية... فالاشتراكية حرمت الفرد من حقه في التملك، أو الحرية الاقتصادية، فصادمت طبيعة الإنسان وفطرته، وتجاهلت الواقع الذي يستمد منه حاجاته... والرأسمالية أعطت الفرد الحرية المطلقة... فتناست حاجة المجتمع والواقع إلى تقيدها...
إن الرأسمالية، على الرغم من الإبداع المادي الذي حققته، لم تحل مشكلات الإنسان، ولم تستطع إسعاده؛ لأنها لم تنظر إلى هذا الإنسان على أنه سيد هذا الكون، فتنمي خصائصه الفكرية والإبداعية، والروحية، وتجعله فرداً فعالاً، ينتج ليعيش حياة كريمة... بل جعلته يسابق الريح من أجل الحصول على أكبر مبلغ من المال... فهو يسعى إلى الربح، وتعظيمه، ولو على حساب الآخرين، أو على حساب المجتمع.. فجعلت من الفرد آلة، يعمل ليلاً ونهاراً من أجل الحصول على الربح والمال الوافر... والله عز وجل أراد للإنسان أن يكون مهندساً للآلة لا آلة... بينما جعلته الرأسمالية آلة، وجعلت الاقتصاد ألهاً يحكم فيه بما يريد...
إن واقعية الاقتصاد الإسلامي لا تتجلى في نظرته إلى الإنسان على أنه أساس الوجود والأصل الذي تقوم عليه التكاليف الشرعية، والمسخر له ما في هذا الكون فحسب، بل جعل الأوضاع الاقتصادية محكومة بواقع الإنسان وقدرته على التعامل معها، فمثلاً: الغني في عنقه حق للفقراء، والفقير لا يقعد عن السعي ما دم قادراً عليه لينتظر عطاء الغني... والقادر على الكسب يجب عليه ليكفي نفسه ومن يعوله.
إن الإسلام يريد من المسلم أن يرتفع إلى الواقع الذي يريده، وليس الواقع الذي يرضاه المسلمون ولا يرضاه الله عز وجل، إذ إن واقع المسلمين اليوم لا يرضى عنه الله عز وجل؛ لأنه لا يتفق مع تعاليمه وتوجيهاته... لذلك فإن الاقتصاد الإسلامي لا يمكن أن يكون متمشياً مع واقع المسلمين اليوم... وإن بعض المسلمين اليوم يريد من الإسلام عامة والاقتصاد الإسلامي خاصة أن يتلاءم مع واقع المسلمين الفاسد... لذلك تراهم يبيحون ما حرّم الله تعالى بحجة مسايرة الواقع والمصلحة، كإباحة للربا في القروض الإنتاجية، والفوائد المصرفية... إلخ.
* المصدر: معالم الاقتصاد الإسلامي: د. صالح العلي.

عن الكاتب

Admin

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

Translate

إحصاءات الموسوعة

المتابعون

جميع الحقوق محفوظة

موسوعة نور الرحمن