التعبير عن تلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم للقرآن بنزوله عليه يشعر بقوة يلمسها المرء في تصور كل هبوط من أعلى. ذلك لعلو منزلة القرآن وعظمة تعاليمه التي حولت مجرى حياة البشرية وأحدثت فيها تغيراً ربط السماء بالأرض، ووصل الدنيا بالآخرة، ومعرفة تاريخ التشريع الإسلامي في مصدره الأول والأصيل- وهو القرآن- تعطي الدارس صورة عن التدرج في الأحكام ومناسبة كل حكم للحالة التي نزل فيها دون تعارض بين السابق واللاحق، وقد تناول هذا أول ما نزل من القرآن على الإطلاق وآخر ما نزل على الإطلاق، كما تناول أول ما نزل وآخر ما نزل في كل تشريع من تعاليم الإسلام، كالأطعمة، والأشربة، والقتال، ونحو ذلك.
وللعلماء في أول ما نزل من القرآن على الإطلاق، وآخر ما نزل كذلك أقوال، نجملها ونرجع بينها فيما يأتي:
أول ما نزل:
1- أصح الأقوال أن أول ما نزل هو قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ1/96خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ2/96اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ3/96الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ4/96عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ ويدل عليه ما رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: «أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء فكان يأتي حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة رضي الله عنها فتزوده لمثلها حتى فجأة الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فيه فقال اقرأ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال اقرأ، فقلت ما أنا بقارئ فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال اقرأ، فقلت ما أنا بقارئ، فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ حتى بلغ ﴿مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره...» الحديث.
2- وقيل أن أول ما نزل هو قوله تعالى: «يا أيها المدثر» لما رواه الشيخان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: سألت جابر بن عبد الله: أي القرآن أنزل قبل؟ قال: يا أيها المدثر، فقلت أو اقرأ باسم ربك؟ قال: أحدثكم ما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم: أني جاورت بحراء فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي، فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وشمالي، ثم نظرت إلى السماء فإذا هو- يعني جبريل- فأخذتني رجفة، فأتيت خديجة فأمرتهم فدثروني، فأنزل الله ﴿يَا أَيُّهَا الْـمُدَّثِّرُ1/74قُمْ فَأَنذِرْ﴾.
وأجيب عن حديث جابر بأن السؤال كان عن نزول سورة كاملة، فبين جابر أن سورة المدثر نزلت بكمالها قبل نزول تمام سورة اقرأ، فإن أول ما نزل منها صدرها- ويؤيد هذا ما في الصحيحين أيضاً عن أبي سلمة عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه: بينا أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرجعت، فقلت: زملوني، فدثروني، فأنزل الله «يا أيها المدثر» فهذا الحديث يدل على أن هذه القصة متأخرة عن قصة حراء- أو تكون المدثر أول سورة نزلت بعد فترة الوحي- وقد استخرج جابر ذلك باجتهاده فتقدم عليه رواية عائشة. ويكون أول ما نزل من القرآن على الإطلاق «اقرأ» وأول سورة نزلت كاملة، أو أول ما نزل بعد فترة الوحي «يأيها المدثر» أو أول ما نزل للرسالة ﴿يَا أَيُّهَا الْـمُدَّثِّرُ ﴾ وللنبوة ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾.
3- وقيل أن أول ما نزل هو سورة «الفاتحة» ولعل المراد أول سورة كاملة.
4- وقيل: «بسم الله الرحمن الرحيم» والبسملة تنزل صدراً لكل سورة. ودليل هذين أحاديث مرسلة والقول الأول والمؤيد بحديث عائشة هو القوي الراجح المشهور.
وقد ذكر الزركشي في (البرهان) حديث عائشة الذي نص على أن أول ما نزل ﴿بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ وحديث جابر الذي نص على أن أول ما نزل ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ ثم قال: «وجمع بعضهم بينهما بأن جابراً سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر قصة بدء الوحي، فسمع آخرها، ولم يسمع أولها، فتوهم أنها أول ما نزلت، وليس كذلك، نعم هي أول ما نزل بعد سورة ﴿يَا أَيُّهَا الْـمُدَّثِّرُ﴾ وفترة الوحي، لما ثبت في الصحيحين أيضاً عن جابر صلى الله عله وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدث عن فترة الوحي، قال في حديثه «بينما أنا أمشي، سمعت صوتاً من السماء، فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسيّ بين السماء والأرض، فجُثِثْت منه فرقاً، فرجعت فقلت: زمّلوني زملوني، فأنزل الله تبارك وتعالى ﴿يَا أَيُّهَا الْـمُدَّثِّرُ1/74قُمْ فَأَنذِرْ﴾.
فقد أخبر في هذا الحديث عن الملك الذي جاءه بحراء قبل هذه المرة، وأخبر في حديث عائشة أن نزول (اقرأ) كان في غار حراء، وهو أول وحي، ثم فتر بعد ذلك، وأخبر في حديث جابر أن الوحي تتابع بعد نزول ﴿يَا أَيُّهَا الْـمُدَّثِّرُ﴾ فعلم بذلك أن (اقرأ) أول ما نزل مطلقاً، وأن سورة المدثر بعده». وكذلك قال ابن حبان في صحيحه: لا تضاد بين الحديثين، بل أول ما نزل ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ بغار حراء، فلما رجع إلى خديجة رضي الله عنها وصبت عليه الماء البارد، أنزل الله عليه في بيت خديجة: ﴿يَا أَيُّهَا الْـمُدَّثِّرُ﴾ فظهر أنه لما نزل عليه ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ رجع فتدثر، فأنزل عليه ﴿يَا أَيُّهَا الْـمُدَّثِّرُ﴾.
وقيل: أول ما نزل سورة الفاتحة، روى ذلك من طريق أبي إسحاق عن أبي ميسرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع الصوت انطلق هارباً، وذكر نزول الملك عليه وقوله قل: ﴿الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ إلى آخرها.
وقال القاضي أبو بكر في (الانتصار): وهذا الخبر منقطع، وأثبت الأقاويل ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ ويليه في القوة ﴿يَا أَيُّهَا الْـمُدَّثِّرُ﴾ وطريق الجمع بين الأقاويل أن أول ما نزل من الآيات ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ وأول ما نزل من أوامر التبليغ ﴿يَا أَيُّهَا الْـمُدَّثِّرُ﴾ وأول ما نزل من السور سورة الفاتحة، وهذا كما ورد في الحديث «أول ما يحاسب به العبد الصلاة» و« أول ما يقضى فيه الدماء» وجمع بينهما بأن أول ما يحكم فيه من المظالم التي بين العباد الدماء، وأول ما يحاسب بع العبد من الفرائض البدنية الصلاة.
وقيل: أول ما نزل للرسالة: ﴿يَا أَيُّهَا الْـمُدَّثِّرُ﴾ وللنبوة: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ فإن العلماء قالوا: قوله تعالى ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ دال على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لأن النبوة عبارة عن الوحي إلى الشخص على لسان الملك بتكليف خاص، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْـمُدَّثِّرُ1/74قُمْ فَأَنذِرْ﴾ دليل على رسالته صلى الله عليه وسلم، لأنها عبارة عن الوحي إلى الشخص على لسان الملك بتكليف عام).
آخر ما نزل:
1- قيل آخر ما نزل آية الربا: لما أخرجه البخاري عن ابن عباس قال: «آخر أية نزلت آية الربا» والمراد بها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ [البقرة:278].
2- وقيل آخر ما نزل من القرآن قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ﴾ الآية، لما رواه النسائي وغيره عن ابن عباس وسعيد بن جبير: «آخر شيء نزل من القرآن ﴿وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ﴾ [البقرة:281].
3- وقيل آخر ما نزل آية الدين، لما روي عن سعيد بن المسيب: «إنه بلغه أن أحدث القرآن عهداً بالعرش آية الدين» والمراد بها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ [البقرة:282].
ويجمع بين الروايات الثلاث بأن هذه الآيات نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف، آية الربا، فآية الدين، لأنها في قصة واحدة. فأخبر كل راو عن بعض ما نزل بأنه آخر، وذلك صحيح، وبهذا لا يقع التنافي بينها.
4- وقيل آخر ما نزل آية الكلالة. فقد روى الشيخان عن البراء بن عازب قال: آخر آية نزلت ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ﴾ [البقرة:282] وحملت الآخرية هنا في قول البراء على أنها مقيدة بما يتعلق بالمواريث.
5- وقيل آخر ما نزل قوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ إلى آخر السورة. ففي المستدرك عن أبي بن كعب قال: آخر آية نزلت ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ [التوبة:128-129] إلى آخر السورة وحمل هذا على أنها آخر ما نزل من سورة براءة.
ففيما رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في زوائد المسند عن أبيّ بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقراه هاتين الآيتين ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ في آخر سورة براءة.
6- وقيل آخر ما نزل سورة المائدة، لما رواه الترمذي والحاكم في ذلك عن عائشة رضي الله عنها، وأجيب بأن المراد أنها آخر سورة نزلت في الحلال والحرام، فلم تنسخ فيها أحكام.
7- وقيل آخر ما نزل قوله تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ﴾ لما أخرجه ابن مردويه من طريق مجاهد عن أم سلمة أنها قالت: «آخر آية نزلت هذه الآية ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم﴾ إلى آخرها، وذلك أنها قالت: يا رسول الله: أرى الله يذكر الرجال ولا يذكر النساء فنزلت ﴿وَلَا تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [النساء:32]. ونزلت ﴿إِنَّ الْـمُسْلِمِينَ وَالْـمُسْلِمَاتِ﴾ [الأحزاب:35]. ونزلت هذه الآية، فهي آخر الثلاثة نزولاً، وآخر ما نزل بعد ما كان ينزل في الرجال خاصة». ويتضح من الرواية أن الآية المذكورة آخر الآيات الثلاث نزولاً، وأنها آخر ما نزل بالنسبة إلى ما ذكر فيه النساء.
8- وقيل آخر ما نزل آية ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ [النساء:93]. لما أخرجه البخاري وغيره عن ابن عباس قال: هذه الآية ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ﴾ هي آخر ما نزل وما نسخها شيء. والتعبير بقوله: (وما نسخها شيء) يدل على أنها آخر ما نزل في حكم قتل المؤمن عمداً.
9- وأخرج مسلم عن ابن عبّاس قال: «آخر سورة نزلت ﴿إِذَا جَاء نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ﴾ وحمل ذلك على أنَّ هذه السورة آخر ما نزل مُشْعِراً بوفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم كما فهم بعض الصحابة، أَوْ أنّها آخر ما نزل من السُّوَرِ.
وهذه الأقوال ليس فيها شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وكلٌّ قال بضرب من الاجتهاد وغلبة الظن. ويحتمل أن كلاً منهم أخبر عن أخر ما سمعه من الرسول، أو قال ذلك باعتبار آخر ما نزل في تشريع خاص أو آخر سورة نزلت كاملة على النحو الذي خرّجنا به كل قول منها.
أما قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ [المائدة:3] فإنها نزلت بعرفة عام حجة الوداع، ويدل ظاهرها على إكمال الفرائض والأحكام، وقد سبقت الإشارة إلى ما روي في نزول آية الربا، وآية الدين، وآية الدين، وآية الكلالة وغيرها بعد ذلك. لذا حمل كثير من العلماء إكمال الدين في هذه الآية على أن الله أتم عليهم نعمته بتمكينهم من البلد الحرام، وإجلاء المشركين عنه، وحجهم وحدهم دون أن يشاركهم، في البيت الحرام أحد من المشركين، وقد كان المشركون يحجون معهم من قبل وذلك من تمام النعمة ﴿ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ قال القاضي أبو بكر الباقلاني في (الانتصار) معلقاً على اختلاف الروايات في آخر ما نزل (هذه الأقوال ليس فيها شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويجوز أن يكون قاله بضرب من الاجتهاد وغلبة الظن، ويحتمل أن كلا منهم أخبر عن آخر ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه أو قبل مرضه بقليل، وغيره سمع منه بعد ذلك وإن لم يسمعه هو، ويحتمل أيضاً أن تنزل هذه الآية التي هي آخر آية تلاها الرسول صلى الله عليه وسلم مع آيات نزلت معها فيؤمر برسم ما نزل معها بعد رسم تلك، فيظن أنه آخر ما نزل في الترتيب».
أوائل موضوعية:
وتناول العلماء أوائل ما نزل بالنسبة إلى موضوعات خاصة، ومن ذلك:
1- أول ما نزل في الأطعمة: أول آية نزلت بمكة آية الأنعام.
﴿قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [الأنعام:145].
ثم آية النحل ﴿فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ114/16إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [النحل:114-115].
ثم آية البقرة ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [البقرة:173].
ثم آية المائدة ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْـمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْـمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [المائدة:3].
أول ما نزل في الأشربة: أول آية نزلت في الخمر آية البقرة ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾ [البقرة:219].
ثم آية النساء ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلَا﴾ [النساء:43].
ثم آية المائدة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ90/5إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾ [المائدة:90-91].
عن ابن عمر قال: «نزل الخمر ثلاث آيات، فأول شيء ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾ [البقرة:219]. فقيل حرمت الخمر، فقالوا يا رسول الله: دعنا ننتفع بها كما قال الله، فسكت عنهم، ثم نزلت هذه الآية ﴿لَا تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ﴾ فقيل حرمت الخمر، فقالوا يا رسول الله ألا نشربها قرب الصلاة، فسكت عنهم ثم نزلت ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ﴾ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حرمت الخمر».
3- أول ما نزل في القتال: عن ابن عباس قال: أول آية نزلت في القتال ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج:39].
فوائد هذا المبحث:
ولمعرفة أول ما نزل وآخر ما نزل فوائد أهمها:
(أ) بيان العناية التي حظي بها القرآن الكريم صيانة له وضبطاً لآياته: فقد وعى الصحابة هذا الكتاب آية آية، فعرفوا متى نزلت؟ وأين نزلت؟ حيث كانوا يتلقون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ينزل عليه من القرآن تلقي المؤمنين لأصول دينهم، ومبعث إيمانهم، ومصدر عزهم ومجدهم، وكان من أثر ذلك سلامة القرآن من التغيير والتبديل ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر:9].
(ب) إدراك أسرار التشريع الإسلامي في تاريخ مصدره الأصيل: فإن آيات القرآن الكريم عالجت النفس البشرية بهداية السماء، وأخذت الناس بالأساليب الحكمية التي ترقى بنفوسهم في سلم الكمال، وتدرجت بهم في الأحكام التي يستقيم بها منهج حياتهم على الحق، وتنظيم شؤون مجتمعهم على الطريق الأقوم.
(ج) تمييز الناسخ من المنسوخ: فقد ترد الآيتان أو الآيات في موضوع واحد، ويختلف الحكم في إحداها عن الأخرى، فإذا عرف ما نزل أولاً وما نزل أخراً كان حكم ما نزل آخراً ناسخاً لحكم ما نزل أولاً.
* * *
* المصدر:
كتاب: مباحث في علوم القرآن: الشيخ مناع القطان.